الباحث في الشؤون الاقليمة والدولية الدكتور محمد حسن سويدان
نادرًا ما يكون التطبيع فِعلًا واحدًا حاسمًا، بل هو مسار طويل يتكوّن من سلسلة خطوات تدريجية، غالبًا ما تُقدَّم على أنها "تقنية"، لكنها مع الوقت تُغيّر الأدوار، وطريقة الخطاب، وحدود ما يُعتبَر مقبولًا بين الطرفين. فالدول لا تنتقل عادةً من حالة العداء إلى حالة السلام بقرار واحد مباشر، بل عبر آليات ولجان وترتيبات اقتصادية وتفاهمات أمنية وإشارات رمزية، تُطبِّع أولًا قنوات التواصل، ثم تُمهِّد لاحقًا لتطبيع العلاقات الرسمية.
انطلاقًا من ذلك، لا يمكن اعتبار تعيين سيمون كرم، كرئيس لوفد التفاوض اللبناني في الميكانيزم، خطوة تساوي التطبيع بذاتها، لكنه أيضًا ليس تفصيلًا عابرًا أو محايدًا سياسيًا. هو مؤشر داخل مسار أوسع، يعكس استعدادًا داخل رئاسة الجمهورية والحكومة لقبول إدخال شخصية مدنية ذات توجّه سياسي واضح، معادي لمقاومة، في إطار تفاوضي تقوده الولايات المتحدة، ويُخفّف تدريجيًا من محرّم التواصل المباشر مع الإسرائيليين.
من هنا، يجب التعامل مع هذه الخطوة كإشارة إنذار مبكر، لا كدعوة إلى الهلع. فهي تقول لنا إن في السلطة اليوم فريقًا لا يمانع التطبيع من حيث المبدأ، لكنه لا يملك بعد القوة الداخلية، ولا التوافق الوطني، ولا الضمانات الخارجية التي تسمح له بالإقدام على هذه الخطوة علنًا؛ لذلك يتقدّم عبر خطوات صغيرة متراكمة، تُمهّد ببطء لمسار قد يتحوّل لاحقًا إلى خيار استراتيجي كامل.
الموقف الرسمي للدولة اللبنانية
يحرص الخطاب الرسمي اللبناني على رسم خط أحمر واضح بين خطوة تعيين كرم وبين أي حديث عن سلام أو تطبيع مع العدو الإسرائيلي. فرئاسة الجمهورية قدّمت تعيين سيمون كرم باعتباره تعديلًا تقنيًا داخل إطار آلية لوقف إطلاق النار قائمة أصلًا لا بوصفه فتحًا لمسار سياسي جديد. كما أكّد الرئيس اللبناني جوزف عون، خلال جلسة مجلس الوزراء في ٤ كانون الأول الجاري، أن "التوجيهات التي أعطاها والرئيس سلام الى السفير كرم، عنوانها العريض هو التفاوض الأمني، أي وقف الاعتداءات والانسحاب من النقاط المحتلة، وترسيم الحدود، وإعادة الاسرى، وليس اكثر من ذلك".
كما شدّد المسؤولون اللبنانيون مرارًا على أن مهمة اللجنة تظل محصورة في وقف الاعتداءات الإسرائيلية، وضمان الانسحاب من الأراضي اللبنانية المحتلة، ومعالجة ملف الأسرى والمفقودين؛ وهي ملفات منصوص عليها في قرارات مجلس الأمن وفي اتفاق وقف إطلاق النار الموقع في تشرين الثاني/نوفمبر 2024. وكان رئيس الحكومة نواف سلام أكثر وضوحًا في النأي بهذه الخطوة عن أي مسار تطبيعي؛ إذ ردّ مباشرة على التصريحات الإسرائيلية حول «تعاون اقتصادي» محتمل، مؤكدًا أن «النقاشات الاقتصادية هي جزء من التطبيع، والتطبيع يأتي بعد السلام ولا يسبقه»، وأن لبنان «لا يزال بعيدًا جدًا عن هذه المرحلة». وربط أي تطور مستقبلي بتنفيذ كامل لاتفاق وقف إطلاق النار لعام 2024، لجهة انسحاب إسرائيل من المواقع المتبقية ووقف الغارات الجوية، والتزام حزب الله بما يتصل بحصرية السلاح بيد الدولة، مع إعادة التأكيد على تمسّك لبنان بالمبادرة العربية للسلام التي تربط التطبيع بحل عادل للقضية الفلسطينية. في المقابل، قدّمت مصادر لبنانية تعيين كرم كأداة لتجنّب تصعيد عسكري جديد مع إسرائيل، و«درء الحرب»، وتعزيز موقع لبنان التفاوضي داخل إطار ترعاه الولايات المتحدة، مع نفي واضح لكون هذه الخطوة مدخلًا لمسار تطبيعي.
في الوقت نفسه، يعكس اختيار كرم بالتحديد، وهو شخصية معروفة بانتقادها لسلاح حزب الله، أن هذه اللجنة «التقنية» ليست ساحة محايدة بالكامل. فكرم، الذي شغل منصب سفير لبنان السابق في واشنطن بين عامَي 1992 و1993، هو من قال أن "التمسّك بالسلاح هو تمسّك بالاحتلال". وهو الذي يعتبر أن أحد أهداف المفاوضات هو "إنهاء العداء بين الدولتين"، أي لبنان ودولة الاحتلال.
ولا بد من الإشارة أن التعيين جاء في سياق ضغوط أميركية وإسرائيلية لربط أي ترتيبات حدودية طويلة الأمد بمسألة نزع سلاح حزب الله، وتُقرأ شخصية كرم في واشنطن وتل أبيب بوصفها أقرب إلى نموذج الشريك في بناء معادلة أمنية تتمحور حول شكل الدولة الذي تريده واشنطن، أي دولة بلا سيادة، وتُقلَّص فيها تدريجيًا وظيفة السلاح المقاوم. هكذا يجد الخطاب الرسمي نفسه يسير على حبل مشدود، فمن جهة يؤكد أن مهمة اللجنة تقنية بحتة، ومن جهة أخرى يتخذ خيارات تُدخِل هذه اللجنة في قلب الصراع الداخلي حول السلاح والسيادة وخيارات التموضع الإقليمي.
من الآلية التقنية إلى مسار التطبيع؟
يمكن فهم ما إذا كان هذا التعيين يمثّل خطوة نحو التطبيع من خلال الاستناد إلى نظريات التكامل الإقليمي ونظريات الأنظمة الدولية. فالتفكير النيّووظيفي (Neofunctionalism)، الذي طوّره إرنست هاس ثم تبنّاه منظّرو الأنظمة، يفترض أن الدول تبدأ التعاون عادةً في مجالات «منخفضة السياسة»؛ أي الملفات التقنية والاقتصادية وإدارة الأمن، لأنها أقل حساسية. لكن هذا التعاون، مع الوقت، يميل إلى التمدّد نحو مجالات «عالية السياسة»، عندما تولّد المؤسّسات المشتركة والروتين اليومي والتشابكات المتبادلة نوعًا من الضغط والحوافز لتوسيع نطاق التنسيق إلى ما يتجاوز التفويض الأصلي. من هذا المنظور، لا تكون اللجان التقنية كيانات جامدة، بل نواة أوّلِيّة لـنظام قد يعيد تدريجيًا تعريف المصالح، ويخفّف من حدّة العداء، ويطبع أشكالًا معيّنة من التواصل.
إذا طبّقنا هذا المنطق على «الميكانيزم» بين لبنان ودولة الاحتلال الإسرائيلي، نرى أن الانتقال من منتدى عسكري صرف، بين ضبّاط جيشَين، إلى إطار يضم شخصيات مدنية ذات حمولة سياسية، ينسجم مع النمط الكلاسيكي الذي تبدأ فيه أداة وظيفية ضيّقة باكتساب مضمون سياسي. وهذا ما يُفسّر لغة السفارة الأميركية التي تقدّم إشراك سيمون كرم وأوري ريزنيك كخطوة نحو «تسهيل نقاشات سياسية وعسكرية» وترسيخ «حوار مدني مستدام» على الحدود، فيما تصفه الصحافة الاسرائيلية كبداية لـ«مفاوضات مدنية» و«محاولة أولى لبناء أساس لعلاقة وتعاون اقتصادي بين إسرائيل ولبنان. فما تسميه بيروت «تعديلًا تقنيًا» يُقرأ في واشنطن وتل أبيب على أنه توسيع مؤسّسي لأجندة اللجنة ولمجموعة الفاعلين المنخرطين فيها.
بالإضافة، هناك عدّة عناصر توحي بأن هذا المسار قد يتحوّل إلى طريق بنيوي نحو التطبيع، حتى لو ظلّت كلمة «التطبيع» محرّمة في الخطاب اللبناني. أوّلًا، باتت اللجنة تنتج لقاءات متكرّرة ومنتظمة بين فاعلين مدنيين معروفين بالأسماء ويحملون خلفهم شبكات سياسية واجتماعية، لا بين ضبّاط فقط. ثانيًا، إن جدول الأعمال العملي للجنة ينزلق بالفعل نحو «السياسة العالية»، البحث في ترتيبات أمنية جنوب الليطاني، جداول زمنية وصيغ لنزع سلاح حزب الله، ومستقبل الجيوب المحتلّة؛ كلها قضايا سياسية صِرفة تُغلّف بلغة تقنية. ثالثًا، إن قبول الإطار الخطابي الأميركي الذي يربط استقرار الحدود بـ«سلام دائم» وبمشاريع اقتصادية إقليمية، يعني أن الدولة اللبنانية تشارك – طوعًا أو تحت الضغط – في انتقالٍ لغوي من مجرّد إدارة الخروق إلى تخيّل نظام حدودي جديد.
هذا لا يعني أن تعيين كرم هو «تطبيع مقنّع» بالمعنى القانوني أو الدبلوماسي؛ فالإطار التشريعي اللبناني لا يزال يجرّم التعامل مع العدو، والخطاب الرسمي لا يزال يؤكد أننا في حالة حرب، وأن أي تطبيع مشروط بحقوق الفلسطينيين. لكن وفق المنطق النيّووظيفي، ما يجري في «الميكانيزم» يخفّض بوضوح العوائق الرمزية والمؤسسية أمام أي مفاوضات سياسية لاحقة. فإذا ضعفت المقاومة أكثر أو اشتدّ الضغط الخارجي، بعد حرب جديدة مثلًا، فإن وجود لجنة مدنية–عسكرية قائمة، برئاسة أميركية ومعتادة على إدارة ملفات حسّاسة، سيجعل الانتقال من «التقني» إلى «السياسي» أسهل بكثير مما لو لم يكن هذا الإطار موجودًا أصلًا.
مع ذلك، فإن تعيين مدني مثل سيمون كرم لا يقتصر على «تحسين» قناة تقنية قائمة، بل يفتح مسارًا جديدًا لتطبيع نمطٍ من التفاعل بين مدنيين لبنانيين وإسرائيليين، يتبادلون خلاله المقترحات ويبنون ما يُسمّى «إجراءات بناء الثقة» ضمن إطار منظّم ومتكرر. بهذا المعنى، تسهم الخطوة فيما يمكن وصفه بالتطبيع البنيوي، أي تطبيع في الأدوار (انتقال التفاوض من حصريّة العسكر إلى مفاوضين مدنيين)، وتطبيع في آليات التواصل ذاتها، حتى وإن ظلّ الخطاب الرسمي يرفض لفظ «التطبيع» ويضع حوله خطوطًا حمراء. خاصة أن مجرّد تصريح رئيس الجمهورية بأن خيار التفاوض هو «خيار لا عودة عنه» يعكس تحوّلًا استراتيجيًا في الطريقة التي تتخيّل بها الدولة أدواتها بعيدة المدى في التعاطي مع العدو الإسرائيلي.
"السلام الاقتصادي" الاسرائيلي
يصبح الربط بين تعيين سيمون كرم ومسار التطبيع أوضح عندما ننظر إلى الخطاب الإسرائيلي–الأميركي الذي سارع إلى إرفاق طبقة «التعاون الاقتصادي» بالصيغة الجديدة لـ«الميكانيزم» بعد إدخال المدنيين. فقد نقلت الصحافة الاسرائيلية أن بنيامين نتنياهو طلب من القائم بأعمال رئيس مجلس الأمن القومي إرسال ممثّل – هو الدكتور أوري ريزنيك – للقاء «جهات اقتصادية – حكومية في لبنان»، ووصفت ذلك بأنه «محاولة أولى لوضع أساس لعلاقة وتعاون اقتصادي بين إسرائيل ولبنان». كما روّج الٌعلام العبري أن تركيز اجتماع الناقورة والمشاورات الجانبية التي قادتها الموفدة الأميركية مورغان أورتيغاس انصبّ على «التعاون الاقتصادي، بما يشمل مشاريع صغيرة مشتركة وإعادة إعمار في جنوب لبنان»، مع مطالبة الأطراف جميعًا بتقديم مقترحات لـ«إجراءات بناء ثقة» في الاجتماع التالي.
وهذا ينسجم بوضوح مع مفهوم «السلام الاقتصادي» الذي روّج له نتنياهو طويلًا وتناوله باحثون إسرائيليون ودوليون؛ حيث تُستخدَم الحوافز الاقتصادية والمشاريع المشتركة ووعود النمو لتهدئة مجتمعات محتلة أو مجاورة، من دون تقديم تنازلات سياسية جوهرية في قضايا السيادة والحدود واللاجئين. وهنا من الممكن طرح كيف طبّقت إسرائيل «السلام الاقتصادي» في فلسطين المحتلّة.
ففي فلسطين، لا يقوم «السلام الاقتصادي» على حلّ جذور الصراع، بل على فكرة بسيطة: بدل أن نعطي الفلسطينيين دولة وحدودًا وسيادة وحقّ عودة، نعطيهم وظائف ومشاريع واستثمارات، على أمل أن ينسوا أو يؤجّلوا مطالبهم السياسية. عمليًا، يُترجَم ذلك بحوافز اقتصادية تشمل مناطق صناعية مشتركة عند المعابر، تصاريح عمل لأعداد أكبر من العمال داخل الأراضي المحتلّة عام 1948، تسهيلات محدودة على الحواجز مقابل هدوء أمني، وقروض ومشاريع بنية تحتية تموَّل من الجهات المانحة.
وهذا بالضبط هو ما حصل في الضفة الغربية بعد أوسلو، حيث أُقيمت مناطق صناعية قرب المعابر مثل «بركان» و«معاليه أدوميم» وحولها، يعمل فيها آلاف الفلسطينيين، لكنّ الأرض تبقى تحت السيطرة الإسرائيلية، والقوانين الإسرائيلية هي الحاكمة، وأصحاب المصانع في معظمهم إسرائيليون. في هذه المناطق يحصل الفلسطيني على راتب، لكن لا يملك قرار الاستثمار ولا الأرض ولا شروط التجارة. في الوقت نفسه، تبقى المستوطنات تتمدّد، والمعابر تحت السيطرة الإسرائيلية، والحدود والموارد المائية بيد الاحتلال.
بهذا الشكل، يتكوَّن نوع من «الاعتماد الاقتصادي» على إسرائيل، فالسوق الإسرائيلية هي المنفذ الأساسي للسلع، والعملة هي الشيكل، وحركة العمال مرهونة بتصاريح أمنية يمكن سحبها في أي لحظة. ظاهريًا هناك «ازدهار نسبي» في بعض الجيوب، لكن من دون سيادة ولا قدرة على التخطيط الاقتصادي المستقل. لذلك، بدل أن يقود «السلام الاقتصادي» إلى تمكين حقيقي وبناء دولة، قاد في كثير من الأحيان إلى دمج غير متكافئ، اقتصاد فلسطيني مرتبط بإسرائيل من موقع أضعف، ما يمنح الاحتلال أداة إضافية للضغط والعقاب الجماعي، من دون أن يقترب الحل السياسي خطوة واحدة من قضايا السيادة.
اليوم يُنقَل إطار «السلام الاقتصادي» هذا إلى الحدود البرية وجنوب لبنان. وقد تحدّثت تقارير أميركية عن دفع أميركي–إسرائيلي باتجاه إنشاء «منطقة اقتصادية لترامب» في الجنوب، على طول الحدود، تستهدف جذب استثمارات خليجية، والمساهمة في إعادة الإعمار، وفي الوقت نفسه ربط هذه المنافع بشروط واضحة تتعلّق بنزع سلاح حزب الله وإزالة بنى المقاومة العسكرية قرب فلسطين المحتلة. وتُسوّق واشنطن هذه المنطقة كفرصة لمعالجة تهميش الجنوب التاريخي، لكن في الحقيقة الهدف الأميركي هو تحويل القرى الحدودية اللبنانية إلى نوع من «منطقة عازلة» منزوعة السلاح المقاوم، تُستخدم فيها الأدوات الاقتصادية لإعادة تشكيل التوازنات الديموغرافية والأمنية تحت وصاية خارجية.
من هذه الزاوية، لا تبدو «مدننة» عمل لجنة الميكانيزم خطوة تقنية معزولة، بل جزءًا من «هندسة» حدودية جديدة، نظام إدارة حدود يندمج فيه رصد وقف إطلاق النار، والترتيبات الأمنية، والتخطيط الاقتصادي الثلاثي (لبناني–إسرائيلي–دولي). وهنا تصبح اللجنة الإطار المؤسسي الأساسي الذي تُناقش وتُختبر وتُشرعن عبره «المشاريع الصغيرة» وخطط إعادة الإعمار. وتوحي الإشارات العلنية من نتنياهو حول «التعاون الاقتصادي»، وحماسة إدارة ترامب لتسويق «منطقة اقتصادية» تحمل اسمه، بأن الفاعلين الإسرائيليين والأميركيين ينظرون إلى هذه اللجنة كبذرة لتطبيع أوسع في الأدوار وحركة رؤوس الأموال والبنى التحتية، حتى لو بقي التطبيع الدبلوماسي الرسمي مؤجلًا. بالنسبة لهم، الميكانيزم ليس أداة لتجنّب الحرب فقط، بل وسيلة لـ«ترويض» جنوب لبنان عبر البنية التحتية والاستثمارات والمساعدات المشروطة، ضمن نمط إقليمي رأيناه سابقًا في مصر والأردن والخليج، حيث تبادل ضمانات أمنية لإسرائيل مقابل إدماج تدريجي لهذه الدول في مشاريع اقتصادية تقودها أو تستفيد منها تل أبيب.
يمكن فهم هذه المقاربة الأميركية كاستراتيجية متدرّجة من عدّة مراحل، تقوم كلّ واحدة منها على القسر والتهديد من دون أن يحصل لبنان فعليًا على مقابل. في المرحلة الأولى، تُستخدَم لغة التهديد بالحرب والعزل المالي والسياسي لدفع الدولة إلى قبول «ترتيبات موضعية» تبدو محدودة ومؤقتة. في المرحلة الثانية، يجري البناء على هذه التنازلات الجزئية، فتُطرَح شروط إضافية تحت ذريعة منع الانهيار أو تفادي التصعيد، من دون أن يُسمَح للبنان بتحصيل مكاسب حقيقية في المقابل، لا على مستوى السيادة ولا على مستوى الاقتصاد. في المرحلة الثالثة، تصبح القرارات السابقة أمرًا واقعًا، وتتحوّل إلى مرجع للضغط الجديد، فيقال للبنان إن عليه أن «يكمل الطريق» لأن العودة إلى الوراء مستحيلة، فتُفرَض عليه ترتيبات أمنية وحدودية واقتصادية تُقزّم دور الدولة وتعزّز اليد الإسرائيلية والأميركية في إدارة حدوده وموارده. هكذا، ومن خطوة «تقنية» إلى أخرى، يجد اللبنانيون أنفسهم في نهاية المسار وقد تخلّوا عمليًا عن مفاصل أساسية من القرار الأمني والاقتصادي لصالح إسرائيل ومصالح واشنطن، من دون أن يكونوا قد حصلوا على استقرار سيادي حقيقي. خطورة هذا المسار أنه يصل بلبنان إلى نقطة يتحوّل فيها القرار من مجرد تنازل سياسي إلى خيار وجودي: إمّا مواجهة عالية الكلفة، وإمّا دخول في بنية تبعية طويلة الأمد لإسرائيل برعاية أميركية.