
أوروبا اليوم ليست مجرد قارةٍ تواجه أزماتٍ سياسيةً واقتصاديةً، بل مسرح لصراع حضاري شامل، حرب حضارات جديدة، حيث تُعادُ كتابة موازين القوة والوعي في العالم.
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ظنّ كثيرون أن الديمقراطيات الليبرالية هي النهاية الطبيعية للتاريخ، وأنّ قيَم الحرية والتعددية ستصبح القاعدة الثابتة للعالم.
الواقع أثبت العكس: القيَم الليبرالية الأوروبية لم تُدمج عالمياً، وأصبحت هدفاً لتصادم مستمرّ مع تقاليد عريقة وطموحات قومية مستقلة، ما جعل أوروبا نفسها تواجه أزمة هوية عميقة لم تعرفها منذ عقود.
الاتحاد الأوروبي، رمز الوحدة والتعددية، يُظهر هشاشةً متزايدة مع صعود القوميات والأحزاب ذات الأجندة الضيقة. فرنسا، على سبيل المثال، تواجه صراع هوية حاداً مع حزب “التجمع الوطني”، الذي يروِّج لفكرة أنّ حماية فرنسا تتطلب رفض كلّ ما هو أجنبي، وطرح القيَم الأوروبية المشتركة كتهديد للهوية الفرنسية الأصيلة. هذا الصراع لا يقتصر على السياسة الانتخابية، بل يمتدّ إلى التعليم، الثقافة، وحتى سؤال المواطنة نفسه. في الشارع الفرنسي اليوم، ثمة انقسام حادّ بين من يرى في أوروبا مشروعاً تحررياً متعدد الثقافات، وبين من يرى فيها تهديداً للهوية الوطنية، ما يخلق أزمة هوية حقيقية على صعيد المجتمع والدولة.
إيطاليا تواجه أزمة مماثلة مع حزب “الرابطة”، الذي يسعى لترسيخ أجندة قومية شمالية، ويعارض أيّ سياسات موحدة للهجرة أو الاقتصاد الأوروبي، معتبراً أنّ الهوية الإيطالية مهدّدة إذا تم فرض أيّ نموذج بروكسلي موحد. هذا الحزب يعيد تعريف الانتماء الوطني بطريقة إقليمية ضيقة، ويعيد فتح جدل قديم حول الدولة الوطنية والتضامن الأوروبي. الشارع الإيطالي يعيش اليوم شعوراً بالغربة عن المشروع الأوروبي، ويطرح أسئلة عن معنى الانتماء والمواطنة، ويعمّق الانقسام بين من يريد أوروبا موحدة ومن يريد حماية الهوية الإيطالية على نحو مستقل.
المجر وبولندا تمثلان حالة أخرى على صراع السيادة الوطنية مع السياسات الأوروبية الموحدة. رفض بروكسيل لفرض سياساتها حول اللاجئين والقيم الليبرالية خلق شعوراً بأنّ أوروبا تتجاوز سيادتها، وأنّ هناك محاولة لفرض نموذج حياة موحد على دول لها خصوصيات تاريخية وثقافية عميقة.
هذا التوتر يعمّق الانقسامات الداخلية، ويخلق أزمة هوية أوروبية حقيقية بين من يراها مشروعاً تحررياً متعدد الثقافات ومن يراها قوة تفرض قيماً لا تتوافق مع التجربة الوطنية، ويضعف قدرة القارة على اتخاذ القرار المستقل، ويزيد من هشاشتها أمام التحديات الداخلية والخارجية.
الأحادية الأميركية تضيف بعداً آخر للصراع. العقوبات الاقتصادية، التعريفات الجمركية والضغط السياسي، وسيطرة الشركات الأميركية الكبرى على الأسواق العالمية، كلّ ذلك يقوّض قدرة أوروبا على حماية قيمها الحضارية والإنسانية، ويجعلها رهينة مصالح أحادية، ويجعل قدرتها على اتخاذ القرار المستقل محدودة، ويزيد شعورها بالعجز أمام تحديات مصيرية على صعيد السياسة، الثقافة، والاقتصاد.
لكن هناك مفتاح لإنقاذ أوروبا، قلبه فلسطين. فلسطين ليست مجرد قضية إقليمية، بل محور عالمي للعدالة والحرية، يمكن أن يوحّد الضمير الأوروبي ويكسر صهينة السياسة الأحادية التي تحدّد مسار أوروبا في كلّ قرار سياسي أو ثقافي أو اقتصادي. إذا تحوّلت فلسطين في الوعي الأوروبي إلى رمز للحقوق المشروعة، فإنها تصبح قوة قادرة على إنقاذ أوروبا نفسها، ومنحها القدرة على استعادة سيادتها واستقلالها الحضاري، لتعيد تحديد موقعها في العالم كقوة فاعلة وحرّة.
الجوامع المشتركة، المعاهد البحثية، والمؤسسات الثقافية والدينية ليست أدوات تعليمية فحسب، بل قوة حضارية قادرة على إعادة صياغة الفكر والوعي. دعم هذه الجوامع وتعزيز الشراكات مع العالم العربي والإسلامي يمكن أن يخلق نموذجاً عالمياً يرفض الهيمنة الأحادية ويعيد التوازن للعالم على أسس الحرية والتعددية والعدالة.
أوروبا، حين تدرك أن فلسطين ليست عبئاً سياسياً، بل عامل يوازن السياسة والثقافة والاقتصاد، تستطيع أن تعيد بناء نفسها كمعقل للحرية، مركز للتنوع، وجسر حضاري يربط ضفتين تاريخيتين. فلسطين، في هذه الرؤية، ليست قضية ثانوية، بل مفتاح استراتيجي لإنقاذ أوروبا وإعادة التوازن للعالم بأسره، لتصبح القارة قوة قادرة على حماية قيمها، واستعادة دورها الحضاري والإنساني، وإعادة صياغة المستقبل العالمي على أسس العدالة والتعددية والحرية.
إن فلسطين ليست مجرد أرض، بل ضمير أوروبا، رمز العدالة، وشرارة القدرة على كسر القيود المفروضة على السياسة والثقافة والاقتصاد، لتعيد القارة نفسها إلى مسار الحرية والاختيار المستقل. أوروبا، حين تدرك ذلك، لن تكون مجرد مشروع سياسي أو اقتصادي، بل تجربة حضارية قادرة على إعادة تعريف التوازن العالمي.