آسيا
خضر خروبي
السبت 25 تشرين اول 2025
رجل أمن أفغاني قرب معبر تورخام الحدودي المغلق مع باكستان في إقليم نانغرهار (أ ف ب)
لا يبدو مشهد الاشتباكات المتفرّقة الأخيرة، والتي استمرت على مدى أسبوعَين، بين أفغانستان وباكستان، معزولاً عن تحوّلات الواقع الأفغاني خلال السنوات الماضية، بخاصّة الأمني منه، مع تسلُّم حركة «طالبان» مقاليد السلطة في البلاد عام 2021، ولا كذلك عن تغيّرات طرأت على المشهد السياسي الباكستاني داخليّاً وخارجيّاً.
والاشتباكات بين باكستان، وحليفتها الأفغانية القديمة في كابول، المتّهمة بدعم حركة «تحريك طالبان باكستان» (المعروفة أيضاً بـ«طالبان باكستان»)، بدأت شرارتها في الثامن من الشهر الجاري، مع إعلان حكومة شهباز شريف مقتل 11 من جنودها في معارك مع عناصر الحركة، وتنفيذها سلسلة «هجمات انتقامية» ضدّ مواقع تابعة للأخيرة في الداخل الأفغاني، نجا من إحداها نور والي محسود، زعيم الجماعة المسلّحة المصنّفة إرهابية من قِبَل إسلام آباد.
وعلى إثر ذلك، تطوّرت الأمور نحو اشتباك مسلّح مع سلطات كابول، حصد أرواح العشرات من الجانبَين، قبل التوصّل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بين البلدين الأسبوع الماضي، بوساطة قطر وتركيا. ولكن مراقبين يخشون من إمكانية تجدُّد النزاع، في ظلّ إصرار إسلام آباد على تحميل كابول، المسؤولية عن توفير ملاذ آمن لنشاط «طالبان باكستان»، انطلاقاً من الأراضي الأفغانية، وهو أمر تنكره كابول، التي ترفض تصنيف «تحريك طالبان» كمنظمة إرهابية، في ضوء تعاونهما إبّان فترة الاحتلال الأميركي لأفغانستان.
وقبيل ساعات من التوصّل إلى اتفاق الدوحة، شدّد وزير الدفاع الباكستاني، خواجة آصف، على أنه «سيتم وقف الإرهاب من أفغانستان على الأراضي الباكستانية على الفور»، وهو كلام قابله الناطق باسم حركة طالبان الأفغانية، ذبيح الله مجاهد، في تغريدة على «إكس»، اكتفى فيها بالتأكيد أن «البلدَين لن يقوما بأيّ أعمال عدائية ضدّ أحدهما الآخر».
شروط وشروط مضادّة
في خلفيات الصدام العسكري بين إسلام آباد التي ترفض الاعتراف بشرعية حكومة الأمر الواقع في أفغانستان، وكابول التي تنكر بدورها شرعية الخط الحدودي القائم بين البلدين، المعروف بـ«خط ديوراند»، يتحدّث محللون عن تغيّر نظرة القيادة السياسية في باكستان حيال «طالبان» الأفغانية، خلافاً لما كانت عليه الحال لعقود خلت.
فمن جهته، يشير الباحث في «مؤسسة آسيا والمحيط الهادئ» الكندية للبحوث، مايكل كوغلمان، إلى تبلور مبدأ جديد على هذا الصعيد، «يقوم على أن تبادر باكستان إلى ردٍ فعل انتقامي داخل أفغانستان في الحالات التي تتعرّض فيها قواتها المسلّحة لهجوم من ذلك البلد»، بعدما «نفد صبر باكستان» تجاه جارتها التي تتشارك معها روابط دينية وعرقية، فضلاً عن كونها سوقاً لنحو 40% من الصادرات الأفغانية.
وفي الاتجاه نفسه، يعتبر الباحث الباكستاني المتخصّص في مكافحة الإرهاب، محمد أمير رانا، أنّ «باكستان دائماً ما توهّمت بأن طالبان الأفغانية ستصبح قوّة استقرار بمجرّد وصولها إلى السلطة»، ملمحاً إلى وجود قناعة لدى القادة الباكستانيين بأنّ «اللعبة المزدوجة التي انتهجتها إسلام آباد، من خلال تحالفها مع الائتلاف الدولي بقيادة الولايات المتحدة من جهة، وانخراطها في علاقات سرّية مع طالبان الأفغانية من جهة ثانية، لم تكن عبقرية استراتيجية، بقدْر ما يمكن اعتبارها خطأً تاريخيّاً».
ثمة إحباط داخل القيادتَين العسكرية والسياسية في إسلام أباد من انحسار نفوذ «شبكة حقّاني» داخل حركة «طالبان» الأفغانية
أمّا في كابول، فالأمر لا يخلو من تعقيدات مشابهة، إذ كشف عضو مجلس الشيوخ الباكستاني السابق، محمد إبراهيم خان، الذي ترأس وفداً إلى العاصمة الأفغانية قبل أسابيع قليلة، أن مضيفيه أشاروا إلى صعوبة التوصّل إلى تفاهمات أمنية مع حكومة شريف، مقارنة مع سلفه عمران خان، الذي كان على وشك إبرام تفاهمات مماثلة مع حكومة «طالبان» الأفغانية، موضحاً أن واقع العلاقات الباكستانية - الأفغانية «تغيّر تماماً بعد تنحية خان»، علماً أنّ زعيم حركة «إنصاف»، الذي يحظى بقاعدة انتخابية وازنة داخل قبائل البشتون الباكستانية الداعمة لـ«طالبان»، عرض على حكومة بلاده مقترحاً لتيسير التفاوض مع «طالبان» الأفغانية مقابل إطلاق سراحه.
وعن مدى أرجحية أن تستجيب حكومة كابول الطالبانية لمطالب إسلام آباد، نُقل عن مصادر ديبلوماسية باكستانية وأفغانية وغربية، استبعادها هذه الفرضية في ضوء تحالف الأولى مع «طالبان باكستان»، وإشارتها إلى أن «هناك نمطاً من التعامل السلبي والساكن من جانب طالبان الأفغانية تجاه نظيرتها الباكستانية، إذ إنها لا تستخدم القوّة العسكرية ضدّ مقاتليها، ولا تطردهم أو تجبرهم على الالتزام بأمور معينة، لكونهم أقرب حلفائها المتشددين».
ووفقاً لصحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية، فإن «نزع سلاح حركة طالبان الباكستانية قد يزيد من صعوبة حكم نظيرتها في كابول، خصوصاً أن تخلّي الأخيرة عن حلفائها الأيديولوجيين قد يثير الإحباط في أوساط الشخصيات المحسوبة على النظام القائم في أفغانستان، ويساعد الجماعات المسلحة المنافسة له، كتنظيم داعش، على تجنيد عناصر جدد».
معضلة «حقّاني»
في المقابل، فإن القيادتَين العسكرية والسياسية في إسلام آباد محبطتان من انحسار نفوذ «شبكة حقّاني» داخل حركة «طالبان» الأفغانية، والمحسوبة تاريخيّاً على باكستان، في ضوء تنحية عدد من أفراد الشبكة من مناصب رئيسية في أفغانستان، لحساب وجوه محسوبة على الجناح المتشدّد فيها، بقيادة الملا هبة الله أخوند زاده، المقيم في قندهار. وفي حديث إلى صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية، كشف الممثل الخاص السابق لباكستان في أفغانستان، آصف دوراني، أن «شبكة حقّاني» أصبحت الآن «جزءاً من المشكلة»، مرجعاً السبب إلى عدم فاعلية جناح حقّاني في دفع حركة «طالبان باكستان»، سواء في ملفّ إلقاء السلاح أو في قضية إنهاء هجماتها ضدّ القوات الباكستانية.
ونقلت الصحيفة عن عناصر محسوبين على «جناح حقّاني»، الذي يتزعمه وزير الداخلية في حكومة «طالبان» الأفغانية، سراج الدين حقّاني، تأكيدهم أنّ مسؤولية تدهور العلاقات مع باكستان، يتحمّلها «التيار المتشدّد» في الحكومة، والذي يقف أيضاً خلف عدد من القرارات بما فيها فرض قيود صارمة على حقوق النساء. وأضاف هؤلاء أنّ «المشاعر المعادية لباكستان تتنامى لدى أعضاء التيار القيادي المتشدّد في قندهار»، مذكّرين، في الوقت نفسه، بـ«عدد من المصالح المشتركة» بين «جناح حقّاني» وباكستان، بما في ذلك صلات عائلية واجتماعية.
عوامل خارجية
وتزامن اندلاع الاشتباكات الباكستانية - الأفغانية، مع زيارة كان يقوم بها وزير خارجية أفغانستان، أمير خان متقي، إلى الهند، وكذلك شيوع تقارير إعلامية حول تعاون استثماري وأمني بين إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وحكومة شهباز شريف، في ما قد يؤشر إلى وجود محفّزات خارجية للاشتباكات، وفق صحيفة «واشنطن بوست»، التي اعتبرت أنّ «قادة طالبان، وتحديداً المنضوين في جناح قندهار، ربما يكونون قد اكتسبوا شيئاً من الجرأة بسبب نجاحاتهم الأخيرة في العلاقات الخارجية، بعد اعتراف روسيا بحكومتهم في كابول، واستضافة الصين والهند لوزير خارجيتهم» أخيراً.
وعلى أيّ حال، لا ينكر الخبراء، ومن بينهم إفتخار فردوس، الخبير في شؤون الجماعات المسلحة لدى نشرة «خراسان دايري»، وهي مجموعة بحثية مقرّها باكستان، «اتساع هامش انعدام الثقة» بين الجارتَين، محذّرين من أنّ دخول قوى خارجية كثيرة على خطّ الأزمة، من شأنه أن «يحول دون حل هذه المشكلة بشكل دائم».
ماذا بعد اللقاء المرتقب في إسطنبول؟
وفيما من غير الواضح مدى انعكاس «اتفاق الدوحة»، على واقع التجارة الحدودية، وحركة الأفراد بين أفغانستان وباكستان، بخاصة عبر معبرَي شامان وتورخان، كشفت تسريبات صحافية عن تضمُّنه بنوداً أمنية تتعلّق بتعهدات خطّية متبادلة باحترام سلامة كل منهما سلامة أراضي الآخر، فضلاً عن تشكيل آلية مشتركة للتنسيق الأمني والرصد، والتصدّي الفوري لانتهاكات وقف إطلاق النار.
وقبيل ساعات من انعقاد الاجتماع المرتقب في إسطنبول بين الجانبَين الباكستاني والأفغاني، لبحث التفاصيل النهائية لإطار سياسي دائم للاتفاق، أكدت مصادر في وزارة الخارجية الباكستانية أن «اتفاق الدوحة»، وإن كان لا يضمن سلاماً تامّاً، يمكن اعتباره بالتأكيد «الخطوة الأولى الصحيحة»، فيما وصفته مصادر ديبلوماسية أفغانية بـ«الفرصة النادرة للمضيّ قُدماً نحو مستقبل سلمي ومستقرّ يسوده الاحترام المتبادل».
مع ذلك، اعتبر الديبلوماسي الباكستاني السابق، جوهر سليم، أن إحلال سلام دائم بين البلدَين يحتاج إلى «إعادة بناء الثقة، وضمان الشفافية في جهود مكافحة الإرهاب، ومقاومة إغراء الردّ على الاستفزازات التي قد تغرق المنطقة في مزيد من عدم الاستقرار»، في حين أثنى المحلّل السياسي، سامي يوسف زاي، على اتفاق وقف إطلاق النار، مستدركاً بأنه «هشّ»، مع تشديده على إدراك الجانبَين أن «استمرار الصراع بينهما حالياً لا يفيد أحداً»، لعدة اعتبارات أمنية واقتصادية.
ومن جهتها، رأت مصادر أمنية باكستانية مطّلعة أنّ صمود «اتفاق الدوحة» سيبقى رهن تحدّيات مختلفة، منها تصاعد الخطاب القومي في كلا البلدَين، فضلاً عن صعوبة مراقبة الحدود الدولية التي يبلغ طولها 2600 كيلومتر، محذّرة من أن «أيّ انتهاك بسيط قد يُعطّل عملية السلام الهشة هذه».