في قلب التاريخ لحظة فارقة: لحظة الدم المسفوك في مواجهة السيف. يسوع الناصري، معلّم المحبّة، نجّارٌ ثائر، صعد إلى الصليب لا لأنه أحبّ الموت، بل لأنّه طلب الحرّية: الحرّية من قمع رجال الدين والحرّية من قمع الإمبراطوريّة. ذاك الإنسان واجه تنّين التسلّط، فنبّه أنّ الحقّ، لا وصفات التسلّط الدينيّ، هو الذي يحرّر من الداخل: «تعرفون الحقّ والحقّ يحرّركم». وقال إنّه أتى ضدّ الإمبراطوريّة: «لأبشّر المساكين، وأشفي المنكسري القلوب، وأنادي للمأسورين بالإطلاق، وأرسل المنسحقين في الحرّية» فأعلن زمن الله، زمن انكسار نير الإمبراطورية وتحرّر الإنسان. كان سيف الإمبراطوريّة مشرعاً، يطلب الولاء المطلق، وكان سيف السلطة الدينيّة يخشى أن يُفتضح فساد قلبه حين يلتقي الحقّ، لذلك تآمر السيف لقتل الحقّ.
شُبّه للقتلة أنّ الموت كانت له الكلمة الأخيرة، وأنّ انتصارهم تحقّق، فإذا بقيامة يسوع تقول إنّ القهر، مهما بدا جبّاراً، لا يملك الكلمة الأخيرة، وإنّ الكلمة الأخيرة هي للتحرّر من الموت ومن القهر. يوم الجمعة العظيمة، على ذاك الصليب المرفوع خارج المدينة، ذاك الرمز للتقدّم والحضارة، انتصر دم يسوع المسفوك، دم الحرّية، على سيف الإمبراطوريّة، وفجّر معنى خفياً لم يظهر حتّى يوم الأحد: أنّ الإنسان لا يُختزل في جسده المصلوب، أن الحقيقة أقدر من الرعب واليأس، أنّ النهاية يكتبها الحقّ، وأنّ جذريّة الحبّ في نهاية المطاف هي الصخرة التي تنكسر عليها السيوف.
هذا المعنى ليس حكراً على زمن مضى. ففي بلادنا، حيث تتناوب الإمبراطورية ووكلاؤها - من احتلال صهيونيّ إلى حكّام استبداد واستغلال - بالسيوف على أجساد الناس وتاريخهم، وتعمل في النفوس جراحاً وأحزاناً، وحيث تُستعار حتّى لغة السماء لتبرير القهر، لا يزال الدم يكتب شهادته. دم الأبرياء في فلسطين، دم الصحافيين والمدافعين عن الحقّ، دم الذين ينشؤون من تراب الأرض وروح السماء ويُقتلون لأنّهم حلموا بحرية، دم الأبرياء في السجون والمنافي، كلّه يفضح جريمة السيف مهما تلألأ بذهب الإمبراطوريات أو بشعارات الدين المُفرّغ من الحبّ والرحمة.
في منطقتنا ينتصر الدم في كلّ شهيد يرسم طريقاً للفجر، وفي كلّ مقاومة مزروعة في التوق إلى الحرّية، يداها في وحل الأرض ورأسها فوق. الدم يعرف أنّ السيف قد يكسب معركة، والقلب المشدود إلى الحقّ والحرّية والكرامة يعرف أنّ السيف يعجز عن قتل الرغبة والإيمان والحلم، وأنّ هذه هي التي تُبقي الشعوب حيّة بعد هزيمة أو أخرى.
إنّ الإمبراطوريات تُشيّد على الخوف وتنهار أمام دماء من تجرّؤوا أن يقولوا «لا» لظلمها، فانتظموا في وحدة صارت جسداً للحرّية وجسراً للقدرة. أمّا استغلال الدين لخدمة الإمبراطوريّة ووكلائها فيفضحه جوهر الدين نفسه: الرحمة والعدل والإخاء. إنّ الفجر، مهما بدا بعيداً هو في متناول اليد اليوم، لأنّ الفجر يبدأ حين يرفض الناس أن يرضخوا، أن يصبحوا عبيداً، أن يكونوا صورةً في بروباغندا المستبدّين، ويصرّوا أن يكونوا وجوهاً تقول «لا»، فيصحّحون مسار التحرّر ويتابعون الطريق.
لا يكفي أن نتأمل الدم الذي غلب السيف، ينبغي أن نحمله معنا اليوم التزاماً حياً: أن نقف مع الأبرياء فنقاوم الإمبراطوريّة ووكلاءَها. حينها، نصير امتداداً للدم الأوّل المتلألئ نوراً في أحد الفصح، فنُساهم نحن أيضاً في حكاية انتصار الدم على السيف، ويكون موتنا قد شُبّه لهم.
كاتب وأستاذ جامعي