
كان الرئيس الأميركي جون ف. كينيدي قلقاً من أن البرنامج النووي الإسرائيلي يشكّل خطراً كبيراً محتملاً على صعيد الانتشار النووي، وأصرّ على أن تسمح إسرائيل بإجراء عمليات تفتيش دورية لتقليل هذا الخطر، بهدف توسيع وتثبيت عمليات التفتيش على منشأة ديمونا النووية من خلال الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وقد دفعت هذه الضغوط إسرائيل إلى المراوغة دبلوماسياً للحفاظ على سرّية برنامجها.
وبحسب دراسة نشرها «مركز الاتحاد للدراسات والتطوير»، مارس كينيدي ضغوطاً على حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي ديفيد بن غوريون لمنع تطوير برنامج نووي عسكري، لا سيما بعد «الجولات المدبَّرة» التي قام بها علماء أميركيون في منشأة ديمونا النووية عامي 1961 و1962، والتي أثارت شكوك الاستخبارات الأميركية بأن إسرائيل قد تُخفي نواياها النووية الحقيقية.
وفي 30 أيار 1961، التقى كينيدي ببن غوريون في نيويورك لمناقشة العلاقات الثنائية وقضايا الشرق الأوسط. غير أن القضية المركزية الأولى التي طُرحت في الاجتماع كانت البرنامج النووي الإسرائيلي، وهي التي أثارت قلق كينيدي أكثر من أي قضية أخرى.
ووفقاً لمسودة محضر الاجتماع، تحدّث بن غوريون «بصوت منخفض وسريع» إلى حدّ لم تُسمع فيه بعض الكلمات، لكنه شدّد على الطابع السلمي والموجَّه للتنمية الاقتصادية للمشروع النووي الإسرائيلي.
ومع ذلك، فإن كاتب المحضر، مساعد وزير الخارجية الأميركية فيليبس تالبوت، يعتقد أنه سمع بن غوريون يشير إلى وجود «محطة تجريبية» لمعالجة البلوتونيوم لأغراض الطاقة الذرية، وأضاف أنه «لا توجد نية لتطوير قدرة على إنتاج أسلحة في الوقت الحالي». وقد فهم تالبوت من حديثه اعترافاً ضمنياً بأن مفاعل ديمونا يمتلك إمكانية الاستخدام العسكري.
وتضمنت النسخة النهائية من المحضر الأميركي الجملة المتعلقة بالبلوتونيوم، لكنها لم تذكر الحديث عن «المحطة التجريبية» أو «القدرة على تصنيع الأسلحة». وتشير الفروقات بين النسختين إلى صعوبة تسجيل اجتماعات دقيقة. لكن، ومهما كانت التصريحات الدقيقة لبن غوريون، فإن الرئيس كينيدي لم يقتنع تماماً بأن مشروع ديمونا سلمي بالكامل، ولم يقتنع بذلك أيضاً ضباط الاستخبارات الأميركية.
وخلص تقدير «الاستخبارات الوطنية»، الذي أُعدّ بعد عدة أشهر من اللقاء، إلى أن إسرائيل قد قررت الشروع في برنامج تسلّح نووي.
تفتيش المنشأة «شرط للتطبيع»
وتُشير الدراسة إلى أنّ كينيدي رأى منذ البداية أن الانتشار النووي يشكّل خطراً يهدد العالم بأسره، وقد حاول جعل قضية ديمونا محوراً أساسياً في سياسته الخارجية تجاه الشرق الأوسط. ثم أصرّ لاحقاً على فرض رقابة وتفتيش دوري على المنشأة كشرط لتطبيع العلاقات الأميركية - الإسرائيلية.
وفي أيار 1961، سمح لفريق من لجنة الطاقة الذرية الأميركية بزيارة المفاعل، بعد ضغوط شديدة. وقد نظّم الإسرائيليون الزيارة بعناية، مؤكدين أن المشروع لأغراض سلمية تتعلق بتوليد الطاقة. أما الفريق الأميركي، فقد اقتنع نسبياً، غير أن ملاحظة وردت بشأن إمكانية مضاعفة قدرة المفاعل اعتُبرت لاحقاً مؤشراً على احتمال التوسع في إنتاج البلوتونيوم.
وفي اللقاء الحاسم الذي جمع كينيدي وبن غوريون في نيويورك، كان موضوع ديمونا في صدارة الحوار. كرّر بن غوريون التأكيد على الطابع السلمي للمشروع، لكنه أضاف تحفظاً غامضاً: «لأغراض سلمية في الوقت الحاضر... لكن لا نعرف ما سيحدث مستقبلاً». وقد كشفت المسودات الأميركية والإسرائيلية للاجتماع عن تباينات وتحفّظات مبهمة، خاصةً فيما يتعلق بمصنع تجريبي لفصل البلوتونيوم.
تقرير «61-35 NIE»
في هذا السياق، صدر تقرير «NIE 61-35» في أواخر عام 1961، وأكد أن إسرائيل إمّا شرعت بالفعل في تطوير سلاح نووي، أو أنها تسعى لتكون جاهزة لذلك عند اتخاذ القرار السياسي.
وقد أشار التقرير إلى أن إسرائيل قد تصبح قادرة على إنتاج سلاح أو اثنين سنوياً بحلول عامي 1965–1966. لكن التقرير تناقض مع نتائج التفتيش الأولى، واعتبر أن الرواية الإسرائيلية تمثّل «تمويهاً استراتيجياً».
وأثناء الزيارة المفاجئة في أيلول 1962، التي تمّت بشكل غير رسمي وبدعوة مرتجلة من الجانب الإسرائيلي، دُعي العالِمان الأميركيان إلى جولة سريعة في طريق عودتهما من البحر الميت. وحينها، لم يتمكن الفريق من زيارة المنشأة بالكامل، واقتصرت الجولة على 45 دقيقة فقط. وقد خلصا إلى أن المنشأة تبدو كمفاعل بحثي، لكن الاستخبارات الأميركية اعتبرت الزيارة محدودة وغير موثوقة.
وسعت واشنطن لإقناع إسرائيل بقبول تفتيش دولي محايد، سواء من قبل فرق سويدية أو عبر الوكالة الدولية للطاقة الذرية، لكن دون جدوى. وقد رأت إدارة كينيدي أن زيارات الخبراء الأميركيين تمثل «حلاً مؤقتاً» إلى حين التوصل إلى تفتيش دائم. ومع ذلك، أظهرت وزارة الخارجية قلقاً متزايداً من انعدام الشفافية الإسرائيلية، رغم مواصلتها طمأنة الحلفاء.
عمليات التفتيش لمفاعل ديمونا
وكشف تقرير رفعت عنه السرية صادر عن اللجنة المشتركة للاستخبارات الذرية الأميركية «JAEIC» في كانون الأول 1960، أن أوّل تقرير استخباراتي أميركي معروف - وربما الوحيد - الذي أكد بشكل لا لبس فيه أن مشروع ديمونا النووي الإسرائيلي يتضمن محطة لإعادة المعالجة بهدف إنتاج البلوتونيوم لأغراض عسكرية.
هذا التقرير هو واحد من 20 وثيقة وردت ضمن موجز وثائقي إلكتروني جديد نشره أرشيف الأمن القومي الأميركي، ويتناول السياسة الأميركية تجاه البرنامج النووي الإسرائيلي والمشكلات الدبلوماسية المعقدة التي أثارها هذا الملف في الستينيات والسبعينيات.
وفي حزيران 1960، زار مسؤولون من هيئة الطاقة الذرية الأميركية «AEC» إسرائيل لتفقد مفاعل سورق الذي قدمته واشنطن ضمن برنامج «الذرة من أجل السلام».
وخلال اللقاءات، أبلغهم مسؤولون في السفارة الأميركية في تل أبيب عن تقارير تشير إلى تعاون إسرائيلي - فرنسي في مشروع نووي قرب بئر السبع، وهو ما فجر الشكوك الأولى حول ديمونا.
وفي كانون الأول 1960 ، أكد تقرير «JAEIC» أن المشروع الإسرائيلي الفرنسي في صحراء النقب يشمل محطة فصل البلوتونيوم، وأن مفاعل ديمونا موجه لأغراض عسكرية.
وبين 1965 و1966 تمت زيارة مفاعل ديمونا من قبل فرق أميركية مرتين على الأقل. ورغم أنها كانت تسمى رسمياً بـ«زيارات» لتجنب التوتر، إلاّ أنّها كانت شبه تفتيشية.
ففي تفتيش عام 1966، أشار الفريق إلى أن إمكانية الخداع الإسرائيلي قائمة، لكنه اعتبر ذلك مستبعداً آنذاك. لكن لاحقاً تبين أنّ إسرائيل كانت قد بدأت إنتاج البلوتونيوم العسكري بالفعل عام 1966، وصنعت أول جهاز نووي عشية حرب 1967.
في ما بعد، عقد الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون اجتماعاً سرياً مع رئيسة الوزراء الإسرائيلية غولدا مائير، في أيلول 1969، تمّ خلاله التوصل إلى اتفاق عرف لاحقاً بـ«تفاهم نيكسون مائير»، ويقضي بتوقف واشنطن عن الضغط بشأن برنامج إسرائيل النووي، عدم طلب التوقيع على معاهدة حظر الانتشار، عدم إعلان إسرائيل امتلاكها للأسلحة النووية وتبني سياسة «الغموض النووي» الرسمية.
تكشف هذه الرسائل والمذكرات الأميركية، والمواقف الدبلوماسية التي اتخذتها إدارات كينيدي ونيكسون، عن مشهد بالغ التعقيد في توازنات القوى داخل الشرق الأوسط، وفي العلاقات الأميركية - الإسرائيلية. وقد أثبتت الوقائع أن إسرائيل لم تتعامل مع ملفها النووي بشفافية، بل اعتمدت استراتيجية «الغموض النووي» والتضليل المتعمد حتى تجاه أقرب حلفائها، وفق الدراسة.
واعتبر «مركز الإتحاد للدراسات والتطوير» أنّ كينيدي حاول فرض رقابة على ديمونا، لكن محاولته فشلت بسبب المراوغة الإسرائيلية ونفوذ اللوبي الصهيوني في واشنطن، مشيراً إلى أنّ «اعتماد إسرائيل على الغموض النووي، ونجاحها في تفادي الرقابة، مثل سابقة خطيرة في نظام منع الانتشار، وفتح الباب أمام سياسات استثنائية تخصها وحدها».
وأضاف المركز أنّ «اتفاق نيكسون - مائير في 1969 رسخ تحالفاً نووياً غير مكتوب، جعل من إسرائيل القوة النووية الوحيدة غير المعلنة في العالم، تحت حماية أميركية كاملة».
كما رأى أنّ «ازدواجية المعايير في التعامل مع الملف النووي الإسرائيلي مقارنة بإيران والعراق وسوريا تؤكد أن القانون الدولي لا يطبق بعدالة، بل يخضع لحسابات سياسية وتحالفات استراتيجية».
وأشار إلى أنّ «رفع السرية عن الوثائق بعد أكثر من 60 عاماً يؤكد وجود وعي داخلي أميركي بمدى التلاعب الإسرائيلي، لكن الغطاء السياسي لا يزال يحول دون أي محاسبة أو مراجعة».