حمزة العطار
أيام حامية لم تشهدها المنطقة قبل ومصير دول وجماعات حتى مصير أشخاص، ترسمه مجريات المنطقة وتسارعات أحداثها، بشكل لم تشهده قبلاً، وأحداث سريعة تعيد معها بناء وترميم وهيكلة الشرق الأوسط بشكل كامل، لمشهد ولادة شرق أوسط جديد بحق، تكاد هندسات بنائه قد أصبحت في خواتيمها، وقد صار شكل المنطقة واضحاً ومرسوماً دون أي تغييرات، سوى أن نشهد مفاجآت كبيرة لتعيد الرسم من جديد، أما في سرد الوقائع والمجريات، فإن إعلان ولادة الشرق الأوسط الجديد، قد لاحت بشائرها، وقد بانت تفاصيلها، ولم يعد ينقص سوى لحظة الاعلان الكبير لهذه الولادة القادمة، ولادة شهدت عدة أحداث لترسم هذه الولادة التي كانت صعبة، ولكن يبدو أنها أضحت في خواتيمها، ولم يعد ينقص إعلانها سوى بعض الوقت والترتيبات .
في سياق تاريخي ليس ببعيد، تلخصت فترة الولاية الأولى لترامب، بتحصيل مكتسبات مالية ومعنوية شرق أوسطية بشكل عام وخليجية بشكل خاص، فكان لترامب أن حقق معظم أهداف تلك المرحلة ولم يعد ينقصه سوى بعض الأشياء التي تحول دون بسط حكمه على الشرق الأوسط كله، بالأصالة أو الوكالة، لذلك عمل على التخلص من كل تلك الحواجز التي تعيق مشروعه الاستراتيجي الكبير، والتي نتج عنها اغتيال قائد فيلق القدس الحاج قاسم سليماني، وقائد محور الممانعة العراقي الحاج أبو مهدي المهندس، وبضعة أمور لو أنها تمت كما يريد، لرأينا سيطرة دون منازع لأميركا يستمر لحقبة ليست بالقصيرة على المنطقة كلها، إلا أن قوة محور الممانعة وحضوره، عطلت بل وأفشلت عدة مشاريع تهدف إلى السيطرة على الشرق الأوسط بمجمله، لتنتهي بعدها فترة حكم ترامب دون تحقيق الآمال والطموحات .
عادت آمال الدولة العميقة في أميركا وآمال إسرائيل الى الظهور مجدداً بعد إقتراب موعد الانتخابات الأميركية الجديدة وسعي ترامب للعودة إلى البيت الابيض، عودة بنصر مظفر، يعيد إحياء المشاريع القديمة التي لم تترك خطط الدولة العميقة في محاولة منها لتطويع والسيطرة على كامل الشرق الأوسط والاستفادة من خيراته الوافرة، من جهة، كما وتقوية الشرطي الحامي في المشروع، أقصد اسرائيل، وإعطائه الحرية المطلقة في بسط النفوذ على كامل المنطقة وهو أمر يخدم سياسة الدولة العميقة الام، وجاءت أحداث السابع من أكتوبر وما تلاها، لتكون ذريعة للشروع في إكمال إعادة بناء الشرق الأوسط الجديد مجدداً، كما ترغب به أميركا وتتمناه، وصار ما صار من أحداث، أفقدت محور الممانعة، كثيراً من خصائص وامتيازات، أو مثلما ظن البعض، جعلت من التمكن من الشرق الأوسط الجديد بخيراته وموجوداته، أمراً يسيراً سهل المنال، وهو ما أطمع نتنياهو أن يجاهر في غير مناسبة، عن ولادة مرجوة لشرق أوسط جديد يناسب نتنياهو ويناسب أميركا بشكل عام .
أحداث ما بعد السابع من أكتوبر ومتغيرات المنطقة في بعض أشكال حكمها وما تلاه من تغيير تمثل بخسارة أركان أساسية في محور الممانعة، أطمع اسرائيل ومعها أميركا، بأن مشروعها بات في طور التنفيذ والانهاء، وباتت السيطرة الكاملة على الشرق الأوسط قاب قوسين أو أدنى، بعد تحييد معظم ما قد يؤخر أو يمنع هذا المشروع, لنشهد الترغيب حيناً والترهيب أحياناً، ووسائل متنوعة للوصول إلى الغاية الأساسية وهي بناء المنطقة وفق ما تراه أميركا .
جرت الأمور على نحو مذهل وتحققت معظم مساعي أميركا واسرائيل ليصبح المشروع شبه قائم، لا تنقصه سوى بعض التشطيبات النهائية، بعدها يكون لأميركا واسرائيل ما أردات لها أن تكون . ومن تابع تطورات المنطقة في الأشهر التي خلت، بات على قناعة بأن الولادة اقتربت، حتى بتنا نشهد بعض التصرفات والتصريحات لبعض لبناني واخر إقليمي، توحي بأن الأمور انتهت، والشاطر الذي يسعى لإيجاد مكان له في خريطة المنطقة الجديدة، أكدت كل تلك الشكوك، ما شهدناه من تراخي أو تراجع لمحور الممانعة بشكل شبه كامل، في مقابل التسونامي التغييري القادم، فنقل البعض سلاحهم من كتف الى آخر وغيروا في مواقفهم بل شهدنا مهاجمة في بعض الأحيان من قبل أشخاص نحو أشخاص آخرين كانو حلفاء في الماضي القريب، باتوا اليوم في جبهات عداوة متقابلة .
قليلون من ثبتوا وحافظوا على تحالفاتهم، بناءً لرؤية استراتيجية مغايرة للوضع أو نتيجة تآلف وتكامل جعلت من حليفين أو أكثر، يصلون إلى مرحلة الانصهار والذوبان الكامل بين بعضهم .
بالعودة إلى صلب الموضوع، كانت لا تزال هناك بضعة أمور عالقة، إيجابية في الظاهر والتوجه، ومعمول على إنهائها في الباطن والتوجه، أبرزها ملف إيران النووي، وبات تبادل الأدوار بين القسوة واللين، للوصول إلى لحظة يتم فيها إنهاء هذا الملف عبر القضاء عليه ولو بالقوة العسكرية، عبر الشرطي، إسرائيل، لتعود المنطقة إلى إنهاء رسمها وإعلان ولادتها وفق ما تريده أميركا وتحب .
كانت كل المخططات تسير وفق سياسة متكاملة ونجاح مذهل، جعل من تحقيق الهدف، أي بناء الشرق الأوسط الجديد، لا يحتاج الا لبعض ترتيبات، يتم الإعلان بعدها عن ولادة مرجوة للمنطقة كلها .
كما أسلفنا فإن الأمور سارت بشكل ناجح نجاحاً مطلقاً يوحي بأن النهاية باتت قريبة للمشروع كله، وبتنا نرى تقسيماً للحصص والأدوار والنفوذ في الشرق أوسط الجديد القادم .
مشروع ترامب سار بخطى متسارعة شارفت على الوصول إلى خواتيمها، ونظرة المراقبين للمنطقة، أيقنوا أن كل ما وجب عمله بات في طور النهاية، بقي إنهاء بعض الجزئيات الصغيرة والبسيطة، من نظرهم، أهمها ملف إيران النووي، وحانت لحظة الحسم، حينما قررت اسرائيل توجيه الضربة القاسمة، لتنهي هذا الملف بالقوة، وتُجبٓر معه إيران على القدوم إلى طاولة التفاوض، لتلقي الاملاءات والتوقيع عليها، ولا يكون لها دور أكبر كما لن يكون لها دور مستقبلي في المنطقة كلها في القادم من أيام، بل والسعي لتغيير حكم الولي الفقيه في إيران و إنشاء حكم جديد يكون طيعاً في يد الحكام الجدد، شبيهاً بحكم كثير من أمراء وشيوخ وملوك وزعماء، ينفذ الأوامر دون أي سؤال أو ازعاج .
خالفت توقعات أميركا واسرائيل وآمالهم سياق ما جرى، فهم ظنوا بأن إيران ستضطر مرغمة على القبول بكل ما يُفرض عليها دون نقاش، معتمدين على قوة الخارج وقوة التحالف الاقليمي، وزرع خلافات داخلية لمعارضين اعتقدوا يوماً أنهم ينتظرون فرصة تحريرهم من حكم ولاية الفقيه .
ليبدأ سيل المفاجآت يتساقط فور التوجه إلى مشروع العزل والانهاء لإيران .
بداية فشلت خطة محاولة اغتيال السيد الخامنئي التي كان مزمع تنفيذها، وهذه من بركات دماء سيد شهداء الامة، الذي فرض واقعاً جديداً يعتبر أن كل الخطوط الحمراء التي كانت قبلاً ومنها اغتيال السيد حسن نصرالله قد سقطت ولم يعد من خطوطٍ حمر في الحرب القائمة وبالتالي ألزم السيد الخامنئي وفريقه بالعمل على خطة وقائية تحميه من أي خطر قد يأتي مهما تعاظمت الاحداث، كذلك الأمر فقد بانت بعض قوة مخفية لدى دولة الولاية، عبر إرسال وجبات صاروخية هائلة نحو الكيان الصهيوني، متميزة بدقتها وسرعتها وقوة تدميرها وضعف أسلحة الدفاع الجوي في محاولة التصدي لها، إضافة الى سكون مرعب لبعض جبهات محور المقاومة لم تظهر قدرتها الحقيقية بعد كالقدرة الحقيقية التي لا زالت تمتلكها المقاومة في لبنان، أو قدرات لم تظهر في العراق أو اليمن، أو حتى بداية جهد مسلح في دول خليجية لم تعتد هكذا أنشطة كالبحرين والكويت وحتى السعودية .
النتيجة، صدمت أميركا بأنها جهدها الذي اختلف تنوعاً وتبدلاً واستراتيجيات منذ سنوات بهدف القضاء على أذرع محور المقاومة، باءت بالفشل وأن هذه الاذرع لا تزال قوية قادرة تحافظ على كثير من قدراتها، وتفاجئت أميركا أيضاً بحجم القوة الهائل الموجود لدى إيران تمثل ببعض الرد والقصف الصاروخي نحو اسرائيل، وهو بعض ما تمتلكه الجمهورية الإسلامية في ايران، في مقابل ذوبان شبابي خاص ضمن المجتمع الايراني، يجرم أخلاقياً ويجرم في التربية المجتمعية، محاولة القيام بأي نشاط قد يمس بأمن الدولة، خاصة في هكذا أجواء، لتصل أميركا إلى نتيجة ثابتة وهي صفر نتائج حُققت من خلال كل ما جرى ويجري، على العكس، برزت دولاً نووية قد تشارك في أي حرب حينما تدعو الحاجة لمشاركتها، مثل باكستان، وبروز دول أخرى نووية أيضاً لديها التقاء مصالح مع إيران أهمها تحييد التفرد الأميركي في التحكم بالعالم، قد تتدخل في لحظة من اللحظات، مثال كوريا وربما روسيا أيضاً .
إزاء كل ذلك بات لزاماً على أميركا، أن تقوم بالتراجع الفوري، والعمل على خطة بديلة، تحفظ بعضاً من اسرائيل، خاصة في ظل الرسائل التي بعثتها إيران بالنار، أنها قادرة على إلحاق ضرر كبير وقاتل بإسرائيل، دون جرأة تدخل وإسناد واضح من أي طرف اقليمي، حتى دون تدخل أميركي لمعرفة سلبيات التدخل الأميركي، على استمرار التواجد وبقاء المصالح الأميركية في المنطقة كلها .
إذن بدأت مروحة الاتصالات ومحاولات التهدئة الأميركية بشكل سريع لمحاولة تهدئة المنطقة، يبقى الأمر والقرار اليوم للجمهورية الايرانية، وما هي الشروط التي ستضعها لإنهاء ما يجري اليوم، وتقديري لن يكون شيء أقل من إيقاف حروب المنطقة، لبنان وفلسطين واليمن، ورفع الحظر الذي عاشته إيران لسنوات واسترداد أموالها المجمدة في الخارج، وبالتأكيد عدم التدخل في الملف النووي الايراني واعتباره موضوعاً انتهى النقاش فيه .
هذا بعض من لوحة يكتمل رسمها اليوم، اسمها الشرق الأوسط الجديد، يبدو أن الفنان الأكبر والرسام الأقدر لهذه اللوحة، هو الرسام الايراني الذي يثبت يوماً بعد يوم أنه كما أبدع في إتقان حياكة السجاد العجمي، يبدع اليوم في رسم لوحة الشرق الأوسط الجديد .
حمزة العطار