النائب اللبناني حسن فضل الله
تستمدُّ سلطات الدَّولة شرعيتها، وتحظى القوانين بقوَّتها، والممارسة السياسية بدستوريَّتها من خلال التزامها بدستور البلاد، المقر من قبل الشَّعب أو ممثليه. ويُعتبر لبنان من الدُّول العربيَّة الأولى الَّتي وُضع لها دستور في العام 1926 حدَّد شكل نظامه السياسي وسارت عليه البلاد حتَّى إقرار وثيقة الوفاق الوطني في العام 1989 الَّتي أصبحت الوعاء الجديد للدستور، وقد نصَّ في مقدمته على "أنَّ لبنان جمهوريَّة ديمقراطيَّة برلمانيَّة"، وصار المجلس فيها هو أمُّ السُّلطات، ومنه تُمنح الشَّرعيَّة الدُّستوريَّة لبقية مؤسَّسات الدَّولة.
حدَّدت تلك الوثيقة هويَّة الدَّولة وشكلها، وصلاحيات مؤسساتها من جهة، ورسمت من جهة أخرى إطارًا وطنيًّا ميثاقيًّا للتعاطي مع القضايا الجوهريَّة وفي طليعتها الصراع مع "إسرائيل".
أشارت الوثيقة في مقطعين منفصلين إلى كيفيَّة التعاطي اللُّبناني مع هذا الصراع، فأوردت في المقطع الأوَّل الآتي:
البند ثانيًا، تحت عنوان "بسط سيادة الدَّولة اللبنانيَّة":
الفقرة 3 النبذة ج: "يجري توحيد وإعداد القوَّات المسلَّحة، لتكون قادرة على تحمُّل مسؤولياتها الوطنيَّة في مواجهة العدوان الإسرائيلي".
لم تربط الفقرة الموضوع بوجود الاحتلال على الأرض اللبنانيَّة، بل جاءت مطلقة، لأنَّ هذا العدوان تاريخي ومستقبلي ربطًا بأطماع إسرائيل التوسعيَّة، ولكن برغم مرور زمن طويل على إقرار هذا النَّص، فإنَّه لم يتم إعداد هذه القوَّات المسلحة لتكون قادرة على القيام بهذه المهمَّة، وهناك أسباب كثيرة منها ما هو لبناني لجهة غياب القرار السياسي، ومنها ما هو خارجي لجهة منع الجهات الدَّوليَّة وعلى رأسها الولايات المتَّحدة الأميركيَّة تسليح الجيش اللبناني بوسائل قتالية تتيح له التَّصدي للعدوان الإسرائيلي..
بقيت هذه المادة معلَّقة، ولم يتم تطبيقها مثل مواد أخرى في الوثيقة والدُّستور، إذ لا يزال بعضها قابعًا تحت صيغة "بصورة مؤقتة".
البند الآخر، ورد على الشكل الآتي:
البند ثالثًا في النبذة ج: "اتخاذ كافة الاجراءات اللَّازمة لتحرير جميع الاراضي اللبنانيَّة من الاحتلال الإسرائيلي، وبسط سيادة الدَّولة على جميع أراضيها".
جرت ترجمة النُّصوص الواردة في الوثيقة حول الصراع مع "إسرائيل" من خلال القوانين الَّتي تناولت هذا الصراع ونتائجه على الأراضي اللُّبنانيَّة، وأهمُّها جرى تثبيته في البيانات الوزاريَّة للحكومات، بدءًا من البيان الوزاري الأوَّل لحكومة الوفاق الوطني المنبثقة عن "اتفاق الطائف."
جاء في ذلك البيان: "والحكومة لن تألو جهدًا، ولن تدَّخر وسعًا في العمل على تحرير الأرض من الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب والبقاع الغربي بكلِّ الوسائل المتاحة، لا سيما دعم المقاومة الباسلة".
أقرَّ المجلس النيابي هذه الصيغة التفسيريَّة لما ورد في وثيقة الوفاق الوطني، لأنَّ "الاجراءات كافة لتحرير جميع الأراضي اللبنانيَّة" كانت تحتاج إلى نصوص تفسيريَّة، وقد وردت من خلال البيانات الوزاريَّة، وبما أنَّ هذه البيانات هي بمثابة نصوص قانونيَّة تقترحها الحكومة ويقرُّها المجلس، فإنَّها هي الصك التشريعي الَّذي يمنح الحكومة الصلاحيَّة الدُّستوريَّة كي تمارس مهامها، كما نصَّ الدُّستور في المادَّة 64 الفقرة 2 "وعلى الحكومة أن تتقدَّم من مجلس النواب ببيانها الوزاري لنيل الثِّقة في مهلة ثلاثين يومًا من تاريخ صدور مرسوم تشكيلها، ولا تمارس الحكومة صلاحياتها قبل نيل الثِّقة". ومن الناحية الدُّستوريَّة تتم محاسبة الحكومة أمام المجلس سندًا إلى مدى التزامها ببيانها الوزاري وتطبيق مندرجاته.
لقد جرى تكريس تفسير ما ورد في وثيقة الوفاق الوطني حول الصراع مع العدو على مدى حقب زمنيَّة متتالية، من خلال إقتراح الحكومات للنُّصوص القانونيَّة وإقرارها من قبل المجالس النيابيَّة، لتصبح بمثابة عرف دستوري، وهو ما يصطلح عليه بالممارسة الدُّستوريَّة الَّتي تتم العودة إليها عند الحاجة، ومن جهة أخرى أعطى هذا التعاقب الزَّمني بعدًا ميثاقيًّا للقضيَّة الَّتي تبنتها الغالبية الشَّعبيَّة من خلال الغالبيَّة النيابيَّة، وصار أي إخلال بهذه الميثاقيَّة، هو إخلال بالوثيقة نفسها، ونقيض دستورها.
لم تقتصر هذه الممارسة الدُّستوريَّة على مرحلة دون أخرى، أو جاءت نتيجة ظروف معينة انتهت مع انتهائها، بل توالت على مدى 35 عامًا (1989ـ 2024) وفي جميع الظروف والأوضاع الَّتي مرَّ بها لبنان.
يمكن الحديث عن مرحلتين في حقبة ما بعد "اتفاق الطائف" هما:
مرحلة الرعاية السوريَّة:
امتدَّت من العام 1989 إلى العام 2005، وانتخب فيها ثلاثة رؤساء جمهورية، حكم منهم إثنان، وتشكَّلت 10 حكومات أكدَّت جميعها في البيانات الوزاريَّة على حق "المقاومة ودعمها واعتبار ذلك أولويَّة الأولويَّات، واستمرَّ هذا الالتزام الرَّسمي بعد التَّحرير في العام 2000، بمصادقة أربعة مجالس نيابية خلال هذه المرحلة.
مرحلة ما بعد الانسحاب السوري:
تتضمن هذه المرحلة ثلاث محطَّات:
الأولى؛ 2005ـ 2009: تشكّلت السُّلطة من مجلس نيابي جديد وحكومتين، وشهدت هذه المرحلة انقسامًا لبنانيًّا حادًّا بين فريقين متعارضين، ومع ذلك بقيت البيانات الوزاريَّة تؤكد على حقِّ المقاومة ودورها وأنَّها "تعبير صادق عن الحق الوطني للشعب اللبناني في الدفاع عن أرضه وكرامته في مواجهة الاعتداءات والتهديدات الإسرائيلية من أجل استكمال تحرير الأراضي اللبنانية". وفي خلال هذه الحقبة ظهرت صيغة "الجيش والشَّعب والمقاومة".
الثانية؛ 2009ـ 2018: أعقبت اتفاق الدوحة، وتشكَّلت السُّلطة من مجلسين منتخبين (2009 و2018) ورئيسي جمهورية وثلاث حكومات وحدة وطنية، وجميعها كرَّست الحق في المقاومة من ضمن البيانات الوزاريَّة.
الثالثة؛ 2018ـ 2022: تشكَّلت فيها السُّلطة من مجلسين نيابيين (مجلس 2018 ومجلس 2022) ورئيس جمهورية وثلاث حكومات، ونالت فيها هذه الحكومات ثقة المجلس النيابي على أساس بيانها الوزاري الَّذي كرَّس الصيغة نفسها لجهة حق اللبنانيين في المقاومة والدِّفاع عن الأرض والثَّروات.
صرنا أمام ثابتتين متلازمتين:
ـ النُّصوص الَّتي وردت في وثيقة الوفاق الوطني بشأن الصراع مع "إسرائيل".
ـ إقرار ممثلي الأمَّة على مدى 35 عاماً بهذا الحقِّ وتكريسه في نصوص قانونيَّة تمثلها البيانات الوزاريَّة للحكومات المتعاقبة.
إنَّ الميثاقيَّة والشَّرعيَّة الدُّستوريَّة تتأتَّى من النُّصوص ومن الممارسة الدُّستوريَّة الَّتي تتحوَّل إلى أعراف، ولذلك فإنَّ المقاومة المكرَّسة كحقٍّ إنساني، ومقرَّة في المواثيق الدوليَّة، تحظى في لبنان بأقوى شرعيَّة دستوريَّة لا تضاهيها أي قضيَّة أخرى، وقد تعاقبت على تكريس هذه الشَّرعيَّة أجيال من الشَّعب اللُّبناني من خلال ممثليه في المجالس النيابيَّة، فمن يمنح الشَّرعيَّة وفق نظامنا البرلماني هو المجلس، ومن يُقرِّر عن الدَّولة هي المؤسَّسات الرسميَّة المخوَّلة وفق الدُّستور، وفي طليعتها رئيس الجمهوريَّة ومجلس الوزراء، وجميعها محكومة للنُّصوص المرعيَّة الاجراء، وفي طليعتها البيانات الوزاريّة.
السؤال المطروح: ما هو المستند الدُّستوري والقانوني الَّذي يمتلكه أصحاب الموقف النقيض أو مدَّعو عدم شرعيَّة المقاومة وسلاحها؟
لا يقدِّم أصحاب هذه النظرة أيَّ مستند دستوري أو قانوني، وموقفهم نابع من مخاصمة سياسيَّة بعضها تاريخي، وعلى عكس موقفهم تماماً؛ تمنح وثيقة الوفاق الوطني وما ترجمته النُّصوص القانونيَّة الشَّرعيَّة الدُّستوريَّة الكاملة للمقاومة وتسلب عن مواقف هؤلاء أية صفة دستوريَّة أو قانونيَّة ويجعلها مجرَّد شعارات، لا تملك أي دليل علمي موضوعي أو حجَّة مقنعة، وهي على النقيض من الوثيقة والدُّستور. ولا يستطيع مدَّعو عدم منح الثِّقة للحكومة أنَّ ذلك كافٍ لسلب الشَّرعيَّة، لأنَّ النِّظام الديمقراطي واضح، فالتصويت ضدَّ قانون ما لا يسلب عنه قانونيته وإلزاميته، فإقراره من الأغلبيَّة يجعله قانونًا، ويصبح الَّذين صوَّتوا ضدَّه خاضعين له، ولذلك فإنَّ أصحاب هذا الإدعاء ليسوا في موقع يخوِّلهم منح الآخرين شرعيَّة دستوريَّة يفتقدونها، مع العلم أنَّ بعضهم سبق لكتله الوزاريَّة أن شاركت في حكومات تبنَّت المقاومة على المستوى الدُّستوري، وعلى قاعدة التضامن الوزاري هم عملوا في حكومات بيانها الوزاري تبنَّى المقاومة، وفي المقابل فإنَّ المقاومة تتسلَّح بالشَّرعيَّة الانسانيَّة والوطنيَّة والدُّستوريَّة والقانونيَّة.
قد يُطرح سؤال هنا: هل هذه الشَّرعيَّة تُعطي للمقاومة حقَّ تولي مهمَّات من اختصاص الدَّولة، مثل الدِّفاع والحماية، بينما الدَّولة هي المسؤولة حصريًّا عن الدِّفاع عن سيادة الوطن وحماية استقلاله؟
لا أحد يناقش في أنَّ مؤسَّسات الدَّولة هي المسؤولة عن حماية شعبها وأرضها، وهذا ما افتقده لبنان وخصوصًا جنوبه منذ العام 1948، ولو قامت الدَّولة بهذه المهمَّة لما احتاج الشَّعب اللُّبناني إلى تأسيس مقاومات مسلَّحة قبل نشأة المقاومة الحاليَّة بعقود.
إنَّ الدَّولة القادرة على توفير الحماية لم تنجزها النخب الَّتي استلمت زمامها منذ نشأتها، بل جرى استيلادها ضعيفة، وغير قادرة على حماية حدودها، وهذا سابق على نشوء المقاومات المسلَّحة ضدَّ الاحتلال، وقبل أن يبدأ العمل الفدائي الفلسطيني انطلاقًا من الأراضي اللبنانية. فمراجعة سريعة للأحداث الَّتي رافقت نشأة الكيان "الإسرائيلي" تُبيِّن أنَّ لبنان كان الخاصرة الرَّخوة، والهدف التَّالي للتوَّسع حتَّى "نهر الأوَّلي" واعتبار منطقة جنوب اللَّيطاني هدفًا للأطماع الإسرائيليَّة. لقد كانت المحاولة الأولى في العام 1948 عندما احتلَّ الكيان الإسرائيلي عددًا من القرى الحدودية، وارتكب مجزرة حولا، وأقام حزامًا أمنيًّا بقيَ حتَّى توقيع اتفاق الهدنة في العام 1949، وبين العامين 1950 و1969 تاريخ توقيع "اتفاق القاهرة" الَّذي سمح بالعمل الفدائي في جنوب لبنان، تعرَّض الجنوب لسلسلة اعتداءات وتوغلات إسرائيلية ومنع الاحتلال لبنان من الاستفادة من ثروته المائية، وقصف منشآت الوزاني وصولًا إلى احتلال جزء من مزارع شبعا في العام 1967. وبعدها تم تدمير الاسطول الجوي المدني في مطار بيروت الدولي، وتوَّجت إسرائيل استهدافاتها باجتياح العام 1982 واحتلال بيروت، ومحاولة الشروع في بناء مستوطنات في جنوب لبنان قبل أن تتمكَّن المقاومة من اجهاض هذا الحلم الإسرائيلي الَّذي يتردَّد بين فترة وأخرى على لسان جماعات إسرائيليَّة ترى في جنوب لبنان امتداداً للدولة "الإسرائيلية" الكبرى.
إنَّ الوضع الاستثنائي للدولة منذ ولادتها إلى اليوم ولَّد خيارات استثنائية لتوفير وسائل الدفاع والحماية، بينها نشوء المقاومة الشَّعبيَّة منذ خمسينيَّات القرن الماضي، من دون أن يتعارض وجودها مع وجود الدَّولة، بل تحوَّل إلى حالة تكامليَّة، عندما تمكَّنت المقاومة من تحرير البلد، ومهدَّت الأرضيَّة لإعادة بناء مؤسَّسات الدَّولة خارج سيطرة الاحتلال.
إنَّ خطر تحويل جنوب لبنان إلى ضفة غربية أخرى أو غزَّة أو جولان هو خطر دائم، وحين تجد "إسرائيل" الفرصة مؤاتية لن تتوانى عن ذلك، لأنَّها تبحث ليس فقط في سجلاتها الدِّينيَّة عن الجغرافيا الواسعة، إنَّما أيضًا تبحث عن الموارد خصوصًا المياه وعن مساحات الأرض لاستقدام من تبقَّى من يهود العالم.
إنَّ حرب الابادة الَّتي يتعرَّض لها الشَّعب الفلسطيني في غزة، هي حافز إضافي للتمسُّك بقوّة المقاومة، لأنَّ لبنان هو دائمًا في عين الخطر "الإسرائيلي"، وما يراه العالم اليوم بالصوت والصورة من مذابح ضدَّ المدنيين والأطفال في غزّة يُمكن أن يتكرَّر في أمكنة أخرى، بينما المجتمع الدَّولي وهيئاته الرَّسميَّة يقفان أمام الجدار الإسرائيلي من دون القدرة على اختراقه، وهذا كلُّه يجعل بناء القوَّة والاعتماد على القدرات الذاتيَّة هو الوسيلة الأنجع للدفاع والحماية من ضمن معادلة "الجيش والشَّعب والمقاومة".
إنَّ منشأ الحقِّ بالمقاومة هو إنساني قبل أي شيءٍ آخر، ويُقال أنَّ القانون الدولي يسمو على القانون المحلي، فإن تعارضا يتم تطبيق القانون الدولي، إنَّ ذلك يدفعنا للحديث عن تطبيق القانون الانساني واستنفار هويتنا الانسانيَّة وجعلها حاكمة على موقفنا عندما نرى خطرًا متوحشًا على الانسانيَّة كما يحصل في غزة، ونحن على مقربة من المذبحة، فهل نكتفي بالصراخ، أم نقوم بعمل مؤثِّر ومفيد، خصوصًا إن كانت هويتنا الانسانيَّة تجمع معها الدَّافع الاخلاقي والدِّيني ومصلحة الوطن، ففي موقف المقاومة في لبنان من الحرب على غزَّة اجتمعت الهويَّات الثلاث الانسانيَّة والدِّينيَّة والوطنيَّة.
() نائب في مجلس النواب اللبناني