*إيران... «رأس» المنطقة المنيع*

*كتب فراس زعيتر في جريدة الأخبار*

لم يظهر على "الشرق الأوسط" ملامح تغيير جذري كالتي تتحكم بسياقات اليوم، ليس فقط انطلاقاً من عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر العام الماضي كتاريخ تأسيسي، بل ربما إلى مراحل أكثر راديكالية في صناعة المستقبل كبدايات "الربيع العربي". الانهيارات في المنظومات العربية التقليدية أظهرت خللاً بنيوياً في طبيعة "الدولة العميقة" أو "الاستابليشمنت" في أي من تلك البلدان، لا بل ظهرت إرهاصاته في دول كانت أكثر ثباتاً إنما تحت اهتزازات بنيوية شديدة. فالمنظومة المجتمعية العربية كانت آخر معاقل "الاستقرار"

  النسبي في الأقطار العربية، ومع ذلك دخلت في شتات مزقها في اتجاهات فكرية متناحرة ومتضادة. وفي اللحظة التي أظهرت فيها "الأمة" واجهتها الضعيفة وانتقلت إلى كونها مجموعة شعوب في جغرافيا سياسية غير ثابتة، بدت إيران في الشرق أكثر دول المنطقة مناعة أمام الانقسام المجتمعي. بل قد تكون الدولة الوحيدة التي خرجت من رحم فوضى السبعينيات وحروب الثمانينيات بهرمية قيادية ودولة مؤسساتية قادرة على تخطي الألغام السياسية (والحقيقية في الكثير من الأحيان). وفي العلاقة معها بصداقة وندية وعداء، وجدت كل أصناف الأمم أن ثمة ثابتاً أساسياً في طهران، ومكتباً تتغيّر شخوصه ولا تتغيّر ثوابته، وجهازاً ديبلوماسياً يصنع شراكات ويرث أخرى، مضافة إليه مناعة في الأمن والاستراتيجيا. 

هكذا انطلقت إيران في فهمها دينامية السياسة الدولية، على قاعدة أن العالم يظهر ثباتاً في التعامل مع الدول بقدر ثباتها، ويصنع معها الشراكات وفقاً لتاريخ صلاحية مؤسساتها الحاكمة. وفي ظل منظومة أخلاقية آثرت الجمهورية الجديدة سنة 1979 على صياغتها بما فيها من تحرر داخلي وتحرير خارجي لأرض "إسلامية" غزاها الصهاينة وأخرى استقطعتها واشنطن بحكم الأمر الواقع. هذه المنظومة فرضت على طهران سنوات من الصراع والحصار والتآمر، ومعها خرجت بانتصارات متتالية عززت نظرية "القوة والثبات" أمام العالم. فهذه دولة يمكن أن تعقد صفقات لعشرين عاماً، لكنها أيضاً قادرة على خوض صراعات لعشرين عاماً أو أكثر. 
الأميركيون في تعاملهم مع طهران، وفي كل السيناريوات من البارد إلى الدموي، اقتنعوا بأن لا عروش في تلك العاصمة كي تهتز. وأن إيران لا ترتكز في خياراتها على "سلامة" النظام، فهذه مخاطرة انتهت في السنوات الأولى للحرب مع العراق. فالجمهورية أكملت عملية بناء الهوية الوطنية، ومعها دولة بآلاف الأجهزة والمؤسسات مع قدرة قياسية على توزيع المهام وتشعيب الهرمية القيادية كي تقترب من المؤسسة الكاملة، وإن في ظل قيادة قائد الثورة السيد علي الخامنئي. هكذا لم يعد في إيران من رأس يسقط كل الرؤوس، وهذا كان شعار ومذهب أميركا في إدارتها للدول بناءً وتفتيتاً في أميركا الجنوبية ومنطقتنا العربية. بل يصل إلى حدّ كونه سلاح "إسرائيل" الاستراتيجي قبل النووي في إدارتها للصراع، فهي صاحبة نظرية الضرب على الرأس منذ اليوم الأول للنكبة الفلسطينية والعربية عام 1948. 
الفاصل في هذه المرحلة قد يكون اختلافاً في الإدراك ما بين الأميركي والإسرائيلي، إذ لا تبدو أميركا قادرة على نقل تجربتها الإيرانية بنجاعة إلى الإسرائيلي. هكذا تظهر خطوات الكيان "المتهورة" تجاه طهران استناداً إلى فهم خاطئ راكمته التجارب مع "حالات" لا علاقة لها بطبيعة الدولة الإيرانية. فالمفكر الصهيوني (ومستشار بن غوريون عندما كان في رئاسة الحكومة) موشي ماوز يفصل في كتابه (الأسد - 1988) كيف تنقسم الأنظمة العربية إلى نوعين، العصابة أو المافيا، أي إما أنها عائلة صغيرة أو عائلة وتصاهر وصداقات. وهكذا ينطبق على الحالتين المبدأ نفسه في هشاشة الصلاحية وخطورة الإدارة المتفردة وإمكانات الانهيار المفاجئ. 
وفي الخيط الزمني هذا، تتوارث "أجيال الحكم" أو الحكام الجدد رعباً دائماً من قدرة "إسرائيل" على إنهاء رحلتهم، مضاف إليها "شراكات" و"صداقات" مع الصهاينة تمهد الطريق عبر تطبيع بطيء يطيل رحلتها، للوصول إلى "سلام إسرائيل" بنسخته الأميركية والغربيّة. وعليه، فإن افتراض إسرائيل الدائم أن قدرة محيطها العربي لا تقاس بدباباته وطائراته، بل باستدامة "دولته" وهشاشة دوائر صنع القرار وهي دائرة واحدة في الأغلب. هذا الافتراض ربما يمنع عنها الإدارة "الذكيّة" للصراع مع طهران، ويخلق لديها واقعاً افتراضياً مفاده بأن لطهران قدرة ما على ابتلاع الضربات واللكمات. فيما الأخيرة تهندس عالماً جديداً للكيان الصهيوني يجعله أرضاً غير قابلة للحياة بالشروط الاستعمارية والعنصرية القائمة اليوم. 
المصدر : admin
المرسل : Sada Wilaya